فى عالم البشر يتفاهم الناس بالكلام.. وفى سائر الحيوانات يتم التفاهم بالأصوات المميزة .. أما فى عالم النحل ، فإن لغة التفاهم تختلف تماما .. إن النحل مخلوق سهل بسيط لا يحب التعقيد.. وكيف لا، وهو الذى يحلل المواد المعقدة إلى مركباتها السهلة .. وبنفس البساطة يتفاهم النحل .. ولغة النحل تقوم أساسا علي الرقص .. وفى هذه اللغة رغم ما يبدو من سهولتها وبساطتها تستطيع النحلة أن تحدد لزميلاتها مكان الرحيق ومواصفاته تحديدا تاما .. من حيث بعده عن الخلية ، واتجاهه بالنسبة للشمس ، ودرجة تركيزه ، بل ونوع الزهور نفسها !! إنه علم الطبوغرافيا الذى اكتشفه الإنسان مؤخرا .. أليس هذا إلهاما من الله سبحانه وتعالى للنحل ؟!! ونعود إلى لغة النحل .. وهذا أمر شغل العلماء كثيرا .. ولقد كان العالم النمساوى ( كارل فون فريسك Von Frisch) من أشهر من تتبع النحل في حركاته ورقصاته ، واستطاع أن يخرج بهذه النتائج المعجزة :
◙ الرقص الدائري :
وهذا النوع من الرقص – أو لغة التفاهم – تستعمله النحلة إذا كان مصدر الرحيق لا يتجاوز 50 مترا من الخلية.. حيث تختار النحلة الشغالة التى اكتشفت مكان الرحيق مكانا مزدحما بغيرها من الشغالات وتبدأ بالدوران حول نفسها فى دائرة ضيقة مغيرة اتجاهها بثبات .. فتدور تارة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار علي شكل (8) .. وأثناء ذلك تشاركها بقية الشغالات هذه الرقصة فى إيقاع سريع ملامسة إياها بقرون استشعارها ، وتستمر هذه الرقصة نصف دقيقة ، وقد تطول إلى دقيقة كاملة .. بعد ذلك تستعد كل الشغالات للخروج لجمع الرحيق وقد فهمت كل شيء عنه .
ولقد أكد العلماء أن النحلة الراقصة لا تشير فى رقصتها إلى مصدر الرحيق فقط .. بل من خلال حركاتها تشير إلى كمية الرحيق ونسبة تركيز المواد السكرية
والشكل رقم (١) يوضح هذه الرقصة .
◙ الرقص الاهتزازى :
وهذا النوع من الرقص تستعمله النحلة الكشافة إذا كان مصدر الرحيق يبعد عن الخلية بأكثر من 50 مترا .. حيث تقوم النحلة بالطيران لمسافة قصرة فى خط مستقيم مع تحريك بطنها من جانب لآخر بسرعة ، ثم تتحرك فى قوس إلى اليسار ، ثم تعود إلى الخط المستقيم ، ثم في قوس إلى اليمين ثم تعود إلى الخط المستقيم ، وبهذا تكون النحلة قد قامت بعمل دورة كاملة .
وقد استطاع Von Frisch وغيره من الباحثين أمثال : Boch ,Park ,Ribbands فك رموز هذه اللغة اعتمادا على عدد الدورات الكاملة التى تؤديها النحلة خلال ١٥ ثانية علي النحو التالى :
ـ إذا كانت المسافة بين الخلية ومصدر الرحيق ١٠٠ متر ، قامت النحلة بعمل ١٠ دورات كاملة خلال الزمن المحدد (١٥ ثانية ) .
– إذا كانت المسافة ٢٠٠ متر كان عدد الدورات = ٧
– إذا كانت المسافة 1000 متر كان عدد الدورات = ٤
– إذا كانت المسافة ٦ كيلو متر كان عدد الدورات = ٢ فقط .
هذا بالنسبة لتحديد المسافة .. أما تحديد الاتجاه فيعتمد أساسا علي الحركة الرأسية التى تؤديها النحلة أثناء الرقص بالنسبة لخط الجاذبية. الذى يمثله خط وهمى بين الخلية والشمس كما يلى :
يصف (Von Frisch ) تحديد الاتجاه بأنه :
- إذا كان اتجاه رأس النحلة فى الحركة المستقيمة إلى أعلي ، فإن ذلك يشير الى أن مصدر الغذاء فى نفس اتجاه الشمس .
- وإذا كان اتجاه الرأس لأسفل، كان مصدر الغذاء فى الجهة المعاكسة للشمس .
- إذا كان اتجاه الرأس يميل بزاوية علي يسار الخط الرأسى ، فإن مصدر الغذاء يقع علي يسار الشمس بنفس الزاوية .
- أما إذا كان الرأس يميل بزاوية علي يمين الخط الرأسى ، فإن مصدر الغذاء يقع جهة المين من الشمس بنفس الزاوية .
وللنحل المقدرة علي اكتشاف وجود الشمس بالرغم من وجود السحب .. ويرجع ذلك إلى حساسية أعين النحل المركبة للأشعة فوق البنفسجية التى تخترق السحب من الشمس .
هذا ، وهناك أنواع أخرى من الرقص الذى يستخدمه النحل فى التفاهم.. فهناك رقص التنبيه والتحذير (Alarm dance) وفيه ينبه النحل لوجود بعض المواد القاتلة المبيدات التى يجب الابتعاد عنها .
يعد هذا العرض المبسط عن لغة النحل لنا أن نتساءل :
– من الذى علم النحل هذه اللغة المعقدة ؟
– من أين للنحل هذا العلم بالزوايا والاتجاهات وتقدير المسافات ؟ .. أليس هذا هو علم الطبوغرافيا بأدق تفاصيله ؟!!
إننا بذلك أمام صورة رائعة من ابداع الخالق سبحانه .. كلها عظات وعبر .. “هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه ، بل الظالمون فى ضلال مبين” لقمان اية ١١ .
يقول العلماء : ان الملكة عند خروجها للتلقيح تسترعى انتباه الذكور بموجات صوتية فائقة لا يسمعها الانسان، ويلتقطها قرنا الاستشعار عند الذكور وهما كالردادر .. وترسل الملكة أيضا موجات عطرية تدل عليها ، ولهذا العطر غدة خاصة فى مؤخرة الجهة الظهرية من بطن الملكة .
لغة التفاهم :
إن شكل الرقص ومدته جددان المسافة ، واهتزازات البطن تحدد مدة الطيران وبالتالى مقدار المؤونة اللازمة لذلك .. وسرعة الحركات تعدد نسبة السكر فى الرحيق .. وحركة الرأس .. تحدد الاتجاه ولكن قد يتفق أن يكون في الاتجاه المطلوب وعلي المسافة المحددة نفسها أنواع أخرى من الأزهار غير التى تقصدها النحلة الكشافة .. فكيف تعرف الشغالات النوع المحدد من الزهور ؟ ذكرنا أن النحلة الكشافة بمجرد عودتها إلى الخلية حاملة عينة من الرحيق تلتف حولها بقية الشغالات لتكتسب منها نفس رائحة الرحيق فتقصده ولا تخطئه .. وهنا يبدو سؤال اخر ، قد لا يكون للزهرة مصدر الرحيق رائحة مميزة .. فكيف تستدل عليها الشغالات ؟
إن في ذلك سرا من أسرار الله سبحانه فى خلقه .. فإذا ما زارت النحلة الكشافة زهرة لا رائحة لها تقوم بإفراز رائحة خاصة ومميزة لأفراد مجموعتها من غده تسمى غة ( ناسانوف) وتلطخ بها الزهرة وبالتالى تكون الزهرة مميزة لبقية الشغالات ..
من هنا نعلم أن للنحلة مفهوما للمسافة بلا أداة قياس .. ومفهوما للعدد بلا تعلم للأرقام ومفهوما للأشكال الهندسية بلا معادلات .. ومفهوما للاتجاهات بلا بوصلات ..